22/06/2021 - 17:09

دفاتر فلسطينيّة | أرشيف

دفاتر فلسطينيّة  | أرشيف

أرشيفيّة

 

المصدر:  «دار الفارابي».

الكاتب(ة): معين بسيسو.

زمن النشر: أيّار (مايو) 1978.

 

 

عليك أن تسافر. باب الزنزانة في السجن الحربيّ يُفْتَح ثلاث مرّات في اليوم. مرّة في السادسة صباحًا حينما تمدّ يدك وتتناول «القروانة» وفوقها الرغيف، وبعدها تُخْرِج جردل البول، فمسافة العشرين مترًا إلى دورة المياه كان ممنوعًا على السجين أن يمشيها، فهم لا يريدون أن تتذكّر أنّك كنت تمشي ذات يوم.

إنّهم في حرب مستمرّة ضدّ ذاكرة القدم. ويُفْتَح باب الزنزانة في الواحدة بعد الظهر على القروانة نفسها وفوقها الرغيف. الكلب البوليسيّ «لاكي» قد أكل قطعة اللحم في حجم رأس الدجاجة. في الشهر الرابع كان «لاكي» يمضغ قطعة اللحم فقط ويبصقها إلى جوار القروانة، وعليك أن تمدّ يدك وتتناولها وتأكلها أمام السجّان. كان «لاكي» هديّة من ألمانيا الغربيّة، ضمن برنامج المساعدة الاقتصاديّة، وفي الواقع، فقد أكل من اللحم وشرب من المرق أكثر بكثير مما قدّمته ألمانيا الغربيّة لإنعاش الفلّاحين المصريين. وكما أنّ الكتابة تجيء في خطوط مستقيمة. هكذا تعلّمنا الكتابة، غير أنّ الزنزانة تعلّمك كتابة جديدة. الزنزانة تُفْتَح للمرّة الثالثة قبيل الغروب. القروانة نفسها وفوقها الرغيف ويُغْلَق باب الزنزانة بعدها حتّى السادسة صباحًا.

***

الجاويش حسن المشرف في سجن مصر العموميّ والمشرف على المعتقلين الفلسطينيّين في الدور الأرضيّ، كان يقشّر الموز أمام باب كلّ زنزانة ويبتلعه إصبعًا بعد آخر وهو يقول:

- هذا موز تعلّموا أيّها الجواميس.

أمّا الجواميس فقد كانت أريحا على خريطة وطنهم، وأوراق الموز كانت أقماطهم حينما يُوْلدون. ولكنّ الجاويش حسن لا يعرف الجغرافيا، وبدل أن يعلّموه كيف يقرأ ويكتب، علّموه كيف يضرب. هذا التعس الّذي وضعوا الكرباج في يده، كان له ولد في الجامعة وفي يده قلم. وحينما تمّ ترحيلنا من سجن مصر العموميّ إلى سجن القناطر الخيريّة. بكى الجاويش حسن وقال:

- لقد أخبرني ولدي أنّه يوجد في بلادكم موز.

***

على حائط كلّ زنزانة يحاول السجين أن يرسم سفينة أو طائرًا. فالسفينة في السجن هي دائمًا هديّة السجين القديم للسجين الجديد:

- لن يتمكّنوا من قتلك ما دمت تسافر.

إنّها وصيّة السجن الخالدة. والسجّان الجوهريّ كان يريد أن يسافر هو الآخر خارج أسوار السجن الحربيّ، فالسجّان يعتبر نفسه سجينًا، وهو سجين بالفعل فطول نهاره وليله في السجن. ولأنّ وصيّة السجن الخالدة تنطبق عليه، فقد كان السجّان الجوهري يسافر بصوته. في الليل كان يغنّي لنا، كان يغنّي للمعتقلين الفلسطينيّين الّذين ضربهم وجعل الكلب «لاكي» يعضّهم.

كان «لاكي» يعضّك في صدرك وفي ظهرك، في كتفيك وفي فخذيك دون أن تسيل قطرة من الدم، كأنّه كان يضع قفّازات في أنيابه، هكذا علّموه كيف يعضّ حتّى لا يتمكّن السجين من النوم لا على صدره ولا على ظهره.

- اِنْتَ واقف يا ابن الكلب اقعد.

ويقعد المعتقل الفلسطينيّ الّذي تعوّد القعود خارج أرضه.

- اِنْتَ قاعد يابن الكلب. قف.

ويقف المعتقل الفلسطينيّ الّذي تعوّد الوقوف خارج أرضه.

هكذا كنّا نقعد ونقف طوال النهار وجزءًا كبيرًا من الليل. والسفر كان مستمرًّا أيضًا طول النهار وطول الليل. مرّة واحدة في الأسبوع كانوا يقدّمون لنا بيضة عند الفطور. فجأة نتذكّر أنّه يمكن أن يخرج من البيضة شيء ما؛ فإذا كنت لا تستطيع أن تحطّم قشرة الزنزانة وتخرج، فهنالك شيء ما يمكن أن يحطّم قشرة البيضة ويخرج. لم آكل البيضة، وكنت أتصوّر طول الوقت أنّ منقارًا صغيرًا سيضرب القشرة ذات يوم، ولقد طال انتظاري.

***

في الزنزانة أنت لا تريد ديكًا يصيح، ولكنّك تريد سفينة تسافر. والسجّان الجوهري كان يريد أن يسافر في الليل، ففي النهار كان عليه أن يضربنا لحساب الآخرين، وفي الليل كان عليه أن يغنّي لحسابه الخاصّ. كان السجّان يحبّ.

- قالوا إنّك تكتب الأغاني.

تحسّ بالفرح، فحينما يتذكّر سجّانك أنّ قلمًا كان ذات يوم في يدك فلعلّه ينسى الكرباج ولو لدقائق في يده. أعطاني أوّل سيجارة في اليوم الخمسين وقال لي:

- اكتب.

- أكتب ماذا؟

- اكتب أغنية لي.

وكتبت أوّل أغنية مقابل سيجارة. في الأسبوع الثاني حمل السجّان أوّل رسائلي، فلقد أعطاني قلمًا وورقة، وكتبت الرسالة الأولى وأرسلتها معه، وكانت إلى خطيبتي انتصار، وكانت أوّل مشروع عروس فلسطينيّة ومصريّة تدخل السجن الحربيّ.

هكذا تحوّل السجان إلى ساعي بريد في السجن الحربيّ.

كان الصوت صوت «أحمد سعيد»، وكان يرتفع من إذاعة صوت العرب، وكنّا نسمعه جميعًا في الزنزانة، فقد تمكنّا من تهريب راديو ترانزيستور، كان أحمد سعيد هو الماركة المفضّلة للراديو العربيّ في ذلك الوقت، وكان يوجّه صوته لهواء ثورة 14 تمّوز في العراق في ذلك الوقت أيضًا.

خليل عويضة المشرف العامّ على التعليم في مدارس اللاجئين في قطاع غزّة، والمعتقل أيضًا لأنّه رفض أن يعترف بحذاء الشرطيّ سمكة في بحر غزّة ودافع عن إصبع الطباشير في يد الطفل الفلسطينيّ، صاح وهو يصغي إلى صوت أحمد سعيد:

- إنّه يكذب… يكذب، فنحن في السجن الحربيّ.

في ذلك الوقت، كانت المطبعة تكذب وكان على الهواء يكذب أيضًا، ورغم كلّ ذلك فلقد أنقذنا الهواء القادم من راديو ثورة 14 تمّوز.

تسافر...

يعوم صوتك في الماء.

وأنا في السابعة أراد عمّي أحمد أن يعلّمني السباحة. كان يملك زورقًا صغيرًا ووضعني في الزورق وراح يجدّف. وفي وسط البحر أمسك بي وألقاني في الماء، وشربت الملح وعرفت للمرّة الأولى كيف أقاتل بذراعي، وحينما أوشكتُ على الغرق، أعادني إلى الزورق لكي يلقي بي مرّة ثانية إلى الماء. وهكذا تعلّمت السباحة وأنا في السابعة من عمري. كان عمّي يعلّمني وهو لا يدري كتابة الشعر، وأنا مدين له حتّى الآن - بهذه النيران - الّتي تندلع طول الوقت بين أصابعي. علّمني كيف أقاتل ضدّ الماء وأنا في السابعة من عمري، والآن، وأنا أقاتل في معركة الورق والحبر أعرف ما قد فعل بي. إنّهم يحتقرون الثعالب ولكنّهم يشترون فراءها، ويكابدون كثيرًا في سبيل اصطيادها، يحتقرون القصائد ولكنّهم يشترون الشعراء.

في العاشرة من عمري أخذتني أمّي إلى العرّافة أمّ حسن، لكي تطرد الشياطين الّتي تسكنني. بعد أن وضعت رأسها فوق رأسي وحدّقت في عينيّ، صاحت:

- لا خوف عليه منها فهي شياطين طيّبة.

***

المطر هو أعظم أصدقائي. وحينما كان يسقط المطر كان يتسرّب إلى قفل الزنزانة ويفتحها فتخرج، والسفينة دائمًا تقف أمام باب الزنزانة في انتظارك. تسافر الآن في القمح.

حينما تخلط لونين… يخرج لون ثالث. فماذا كان يحدث حينما كان السجّان يخلط بكرباجه مائن صرخة لمعتقل؟

العذاب دائمًا يأتي من خارج الزنزانة، فحينما يبدأون في تعذيب جارك في الزنزانة المجاورة، يبدأ العذاب بالنسبة لك، إنّك تنتظر دورك وهم يعرفون كيف يُطيلون عذابك في الانتظار، فقد لا يأتي دورك في هذه الليلة، ولكن ألسنة النيران بدأت تشتعل في عظمك. كلّ صرخة تأتي إليك من الخارج لسان نار. دخان النيران يتسرّب من جسد جارك المعتقل، إنّهم يذبحونه بالنار ويخنقونك بالدخان.

الدخان يسترّب إلى الزنزانة إبرًا ومسامير. إنّهم يدقّون الدخان إبرًا ومسامير في عظامك، لقد أدخلوك في التجربة ويجب أن تتذكّر شيئًا ما لكي تتمكّن من المقاومة. تدخل كلّ الأصوات إلى زنزانتك مختلطة كأنّها صراخ البطّ البريّ حينما يسقط في الشرك.

محمّد مهدي الجواهريّ، لماذا يحوم كلّ هذا الذباب الأزرق فوق أصابع يديه الآن؟ لقد دخل مصر بدعوة شخصيّة من الدكتور طه حسين حينما كان وزيرًا للمعارف في عهد الوفد المصري. الدخان يتحوّل إلى ذباب. صدقي باشا يدخل البرلمان المصريّ وفي يده ديوان «إصرار» للشاعر المصريّ كمال عبد الحليم، وهو يصرخ:

- الشيوعيّون في شوارع القاهرة؟

في ذلك الوقت كانت القصائد في شارع القاهرة.

كانت أمّي تخبّئ قطعة كبيرة من اللحم لفؤاد نصّار عندما كان يأتي في منتصف الليل.

- إنّه يتعب كثيرًا.

لقد كان فؤاد نصّار يتعب كثيرًا. كان أوّل مَنْ وضعني أمام المايكروفون في أوّل اجتماع جماهيريّ لعصبة التحرّر الوطنيّ في سينما السامر في غزّة وعرّفني على إميل توما وإميل حبيبي وقال لي: تكلّم.

كانت المرّة الأولى الّتي أرى فيها الشاعر عبد الرحيم محمود، وجهه كان يشبه التفّاحة. كان فلّاحًا فلسطينيًّا يكتب بالمحراث، هذا المحراث الفلسطينيّ الّذي ترك لنا جسده لكي نلتقي فيه ببعض البذور. ومن الشبابيك المفتوحة في يد عبد الرحيم محمود تعرّفت على شاعر العصر الفلسطينيّ عام 1946 أبو سلمى.

- إنّ أمّك تموت!

ألقي بالدفاتر وأركض إلى البيت، كانت أمّي ممدّدة فوق السرير وإلى جوارها كان أبي وعمّي أحمد وعمّي عاصم وخالاتي الأربع والطبيب والتصقت بها ورفضت أن أترك الفراش. كانت في حاجة إلى شيء ما وكنت أحسّ أنّ في استطاعتي أن أقدّم لها هذا الشيء.

***

في الثامنة من عمري تبعت ثلجة وعبد الرحيم، كانا غجريّين يمشيان على الحبل، ولقد أرضعتني تلك الغجريّة. كانت ترضع طفلها وكنتُ عطشانًا فلاحظت عينيّ، فأرضعتني. من يومها وهي لا تدري كيف أمشي فوق حبل من النار.

في الصباح حدثت المعجزة وعاشت أمّي. كان عليها أن تقاوم من أجل شيء ما فقاومت من أجلي وعاشت.

***

السجّان يمسح كفّه في حائط زنزانتي، كان على أصابعه دم فريد أبو وردة.

حمزة البسيوني قائد السجن الحربيّ يأتي الآن، يأتي في اللحظة المناسبة، فالصراخ يأتي من الخارج وهو يصرخ من الداخل.

- اكتب فقط أنّك لست شيوعيًّا.

إنّهم يعطونك القلم الآن، أولائك الّذين كسروا أصابعك. يعطونك الورقة الآن أولئك الّذين جرّدوك من ثيابك، أولئك الّذين لا يعترفون إلّا بأنياب الكلاب البوليسيّة أقلامًا لهم. كانوا يريدون منك أن تكتب، تتذكّر عينيّ أمّك. بحر غزّة الّذي تعلّمت فيه السباحة وأنت في السابعة من عمرك. إنّك ترى بوضوح وجه فخري مرقة. كان يعمل جاويشًا في مركز بوليس المجدل، فوضع كلّ بنادق مركز البوليس في صندوق سيّارة وهرب وانضمّ إلى فصيل الشيخ حسن سلامة.

وأنا صبيّ زرت فخري مرقة في سجن عكّا، كان محكومًا عليه بالإعدام ثمّ حكموا عليه بالسجن المؤبّد وهرب من السجن وجاء إلى غزّة عام 1957 وأحببته كثيرًا، وكان دائمًا يقول لي: “الأغنياء لهم الله والبوليس… والفقراء لهم النجوم والشعراء”.

- إذا كنت لا تريد تكتب فتكلّم. قل فقط إنّك لست شيوعيًّا.وسوف تخرج.

لكن كلّ العالم كان سيسمعني لو قلت هذه الكلمات.

مخلص عمرو، كان رئيس تحرير مجلّة الغد وكانت صوت رابطة المثقّفين العرب.

عاش أجمل أيّامه شيوعيًّا، وحينما كان شيوعيًّا علّمني الكثير. حمزة البسيوني يدقّ صوته كالمسمار في أصابعي ويصيح:

- قل إنّك لست شيوعيًّا وستخرج.

الزنزانة تمتلئ الآن بالوجوه. إنّك لست وحدك. إنّهم يريدون أن يكسروا صوتك لكي يكسروا عظمك، ويخرج حمزة البسيوني يتبعه الكلب «لاكي» والكلبة «غولدا». لقد أطلقوا عليهما اسمًا إسرائيليًّا، أمّا أنيابها، فقد كانت أنيابًا عربيّة أصيلة مسنونة من المحيط إلى الخليج.

- قل إنّك لست شيوعيًّا وستخرج.

تتذكّر الجريدة الّتي لفّوا بها الباذنجان والفلافل، ومن هول العطش لقراءة أيّ شيء مكتوب، تقرأ الجريدة الملطّخة بالزيت، وتستطيع أن ترى صورة الشاعر السوريّ شوقي بغدادي والقصيدة الّتي كتبها وأخرجته من السجن:

قد كنتُ ابنًا ضال

يا عصبة الأوحال

وخالد الدجّال…

المطر يسقط والدخان الّذي كان يتسرّب من أصوات المعتقلين ومن عظامهم قد أخذ يتلاشى في الماء.

وتبدأ السفينة تنزل إلى الماء. بذرة الخشب الّتي هي نطفة الشجرة تلقّح الماء الآن، ويتمدّد البرق كالجسد فوق سطح البحر والمعتقل الّذي لا يملك منديلًا يصنع صوته أشرعةً تكفي لكي تصنع قميصًا لكلّ البحار، يصبح الآن هو القبطان الّذي أخذ يستقرّ فوق الماء.

- الشعراء عينهم على القمر، ويدهم على الرغيف، وفمهم مع السفينة.

وينزل الفم إلى الماء، تنزل السفينة ويبدأ السجين يسافر، يبدأ المطر يسقط. الجراد الّذي لا يستطيع أن يقضم الماء يحلم بالسمك…

لقد نزل الفم إلى البحر وأصبح سفينة.

 


عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.

 

 

التعليقات